كان دافعي الأول لكتابة هذا المقال أداء حق الدفاع الأدبي عن رسولنا الحبيب محمد ( صلي الله عليه وسلم ) ، إذ يتمثل هذا الدفاع الواجب من أكثر من وجهه ، منها حلاوة يستشعرها القارئ لبعض تلك الآثار الشعرية ، خاصة لما تضمه من حب وعاطفة جياشة نحو صاحب الرسالة في صياغة هؤلاء الشعراء ، ولا شك أن ذلك يساهم في تنقية أنفسنا من سموم علقت بها من تناول سيد المرسلين ( صلي الله عليه وسلم ) ذاك التناول الحاقد من وقت لآخر ، هذا عن الجانب النفسي الخاص في التناول ، أما الجانب العام فيشهد دورالأدب المنشود في الإشادة والدفاع عن سيد المرسلين ورسالته ، من طريق تذكير المسلمين بضرورة التمسك بسنته وقيم الإسلام العظيم في ملمح هام إذ ما تجرأ أعداء الرسول عليه لولا ضعف اتباعه وتركهم ما خطه لهم من سبل العزة والارتقاء .
كان للشعر دوره المشهود خلال عصور العروبة والإسلام المتعاقبة في الدفاع عن عقائد وأخلاق الأمة ، وفي الدفاع عن الرسول الكريم ( صلي الله عليه وسلم ) ، فكانت قصائد الشعراء هي المنبر الإعلامي الأول والمؤثر علي المجتمع حينها ، فالعرب كانوا هم أهل الفصاحة واللغة وتذوق الشعر ، لذلك حرص الرسول الكريم ( عليه الصلاة والسلام ) علي العناية بالشعر والشعراء والاستماع عليهم وتشجيع فنهم ، وتأكيد دورهم لنصرة الإسلام والمسلمين ، لذلك نجد استماع الرسول الكريم ( عليه الصلاة والسلام ) لسيدنا كعب بن مالك وهو ينشد قصيدته الشهيرة ( بانت سعاد ) ، ثم ألقي عليه بردته دلالة علي الحماية والأمان والتأييد ، فنال الشعر عامة والشاعر خاصة شرف الدهر وخلود الذكر ، فموقف الإسلام من الشعر أنه يؤيد الصدق الموضوعي إضافة إلى الاعتبار الفني ، قال تعالي : " والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون ،إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون " ( 1 ) ( الآيات من 224 : 227 من سورة الشعراء ) .
وبالنظر إلى رحلة قصائد ومطولات الشعر مع شخصية المصطفي ( صلى الله عليه وسلم ) نجد أنها تمتد عبر أربعة عشر قرنا من الزمان ، ففي سيرة المصطفي ( صلي الله عليه وسلم ) وقف جماعة من شعراء الصحابة ( رضوان الله عليهم ) يذودون بشعرهم عن النبي الكريم ورسالته ، وتشرح قصائدهم تلك عاطفتهم الجياشة تجاهه ، تقديرهم وعظيم حبهم له ، فادوا بذلك مهمتهم الجليلة حيث كانت قصائد الشعر هي الوسيط الإعلامي الأهم في جزيرة العرب ، ومنهم شعراء كثر مثل شاعر الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) حسان بن ثابت ( رضي الله عنه ) ، وسيدنا كعب بن زهير ( رضي الله عنه ) صاحب قصيدة لامية العرب الشهيرة والتي لم تحظي قصيدة من المديح النبوي بمثل ما حظيت به من ثناء الرسول الكريم ( فألقي عليه بردته الشريفة فسميت لذلك بالبردة ) واحتفاء المسلمين بها جمهورا وأدباء ونقادا علي مر الدهور ، بل على منوالها نسج مئات الشعراء قصائدهم ، يقول في مطلعها بيته الغزلي الشهير والذي اشتهرت القصيدة به :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم علي إثرها لم يفد مكبول
وعلي أثرها نسج الشعراء روائع المديح النبوي كبردة البوصيري الشهيرة ، وبردة أمير الشعراء أحمد شوقي وهمزيته والتي مطلعها الشهير يقول :
ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
ولو تأملنا في كم ومعاني الشعر الذي تناول شخصية الرسول الكريم ( صلي الله عليه وسلم ) لوجدنا عددا هائلا من النصوص يصعب حصرها بدقة سواء كانت قصائد قصيرة أو مطولات شعرية أو قصائد غنائية أو قصة شعرية أو قصائد تعارض بردة " بانت سعاد " مثل " نظام البردة "، " نهج البردة " .... إلي آخره .
وقد اشتملت تلك الطائفة الهائلة من القصائد هذا الإحتفاء الواجب بشخصية الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) وأخلاقه وجهاده وعطائه الموصول للقيم الإنسانية
ومبلغ العلم فيه انه بشر وانه خير خلق الله كلهم
وأنه أقرب إنسان إلى الله تعالي ورسالته تدعو للحق والسلام والخير ، يقول الشيخ الصاوي شعلان
الحق رسالته لشعوب الأوطان والعدل هدايته لجميع الأزمان
دعوته قآن عربي التنزيل صمدي علوي قدسي التأويل
الله معلمه ومولاه جبريل
ويظل الرسول الكريم في قصائد الشعراء منارة الوصول ومحطة الأمان وشعلة الأمل كما قال كعب بن زهير في بيته الإطار الشهير :
إن الرسول لنور يستضاء به وصارم من سيوف الله مسلول
وكانت أيضا تلك القصائد روضه غناء تنبئ عن العاطفة للرسول الكريم بشكل ليس له نظيرا في سائر الآداب الأخري :
بشراك يا دنيا فتيهي وافخري في مولد الهادي البشير المنذر
بشراك فالآمال مشرقة السنا والكون يزهو بالسراح الأنور
ويقول أحمد شوقي ( رحمه الله ) في بردته
سرت بشائر بالهادي ومولده في الشرق والغرب مسري النور في الظلم
وقد انتقل الأداء الشعري عن شخصية الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) والعاطفة نحوه بأطوار مختلفة عبر عصور ممتدة لتشكل تيارات شعرية لها خصائصها المميزة ، فمن تيار المحافظين والذي مثله شعراء الصحابة ، حيث يبرز دور الشعر كأداة إعلامية في خدمة الدعوة الإسلامية ، وأداة للذود عن الرسول الكريم والدفاع عن الرسالة الإسلامية في العصور الإسلامية الأولي ، ثم التيار الصوفي ، ونجد به جملة من المدائح الرائعة ومنها بردة البوصيري ، والمرحلة الأخيرة من تلك الرحلة ليشمل تيارا من القصائد والمدائح النبوية في العصر الحديث في إطار اجتماعي وحضاري ، حيث أصبحت شخصية الرسول الكريم ( صلي الله عليه وسلم ) تمثل الهوية الإسلامية في مواجهة التحدي الحضاري ، فكما يذكر د . حلمي القاعود : " تحولت شخصية النبي الهادي إلي ملجأ قيمي ونفسي ، ورمزا للتعبير عن قضايا ذاتية وعامة " ، ويذكر الأستاذ عادل البطريق : " وفي العصر الحديث يتجه المديح النبوي إلي الرصيد التاريخي لسيرة المصطفي ( عليه الصلاة والسلام ) وإلي التضرع والشكوي وإستحياء مواقف العزة والبطولة في تاريخ الإسلام .... فالمدائح النبوية في العصر الحديث تعد دعوة لليقظة والصحوة الإيمانية التي تعيد للإسلام قوته وتبعث مجده من جديد " ، وبذلك مثلت تلك القصائد أهمية خاصة باعتبارها أداة للمقاومة وشعلة للأمل وسبيلا للنهوض وإشارة إلي جوانب مضيئة من المثال الكريم كقدوة للمسلمين ممثلة في أخلاق وحياة الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) كسبيل للنهضة الإسلامية ورقي شعوبنا العربية .
وقد تأكد في مرحلتنا الحالية حق الأداء الأدبي في الذود عن الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) ، خاصة بعد جرأة الجاهلين عليه ، وتعمد الإساءة إليه ، بما يجب أن يتوافر عليه الشعراء خاصة والأدباء عامة ، وفي ميمية أمير الشعراء أحمد شوقي :
يا جاهلين علي الهادي ودعوته هل تجهلون مكان الصادق العلم ؟
وفى الختام نشير على أهمية الإشادة بتلك القصائد الرائعة ومطالعتها والبحث عنها والتنعم بما تحمله من معاني راقية وأداء فكري وروحي مميز، خاصة وأنها تنتمي على عصور متباينة ولكل منها ميزاته وخصائصه الشيقة ، حيث أن لكل شاعر تناول حياة وأخلاق ودعوة الرسول الكريم ( عليه الصلاة والسلام ) أسلوبه وشخصيته البارزة في شعره والتي تعد بصمه خاصة به ، ويظل هكذا الشعراء ينهلون من هذا المورد الصافي الضياء لقصائدهم والمحبة لنبيهم ولله در الشاعر حين قال :
وأنسب إلي ذاته ما شئت من شرف وأنسب إلى قدره ما شئت من عظم